أعلام الطب العربي في بلاد الأندلس بنو زهر الأندلسيون نموذجأ
لعلم الطب تاريخُه مثلما لكـل الناس تاريخهم، ومن البدهي أنـه لا يمكن أن يُفهم حاضر الناس إلا بعـد الوقوف على معرفـة ماضيهم، وكذلك الأمم، فليس بمقدور أحد أن يفهمها في حاضرها إلا بقدر ما لديه من معرفة ماضيها، والوقوفُ على حاضر الطب يتوجب على رواده أن يطلعوا على ماضيه.
ولا شك في إن إقرار المعنيين بأهمية تاريخ الطب ـ عموماً ـ يكون قد وضعهم قصاد تاريخ الطب العربي بصورة خاصة. فلا جدال في أهمية الدور الكبير الذي لعبه العرب في تاريخ الطب، فبطلوع شمس الإسلام على ربوع جزيرة العرب، وانطلاقِ قاطنيها من الظلام الحندس إلى النور، ولدت ونشـأت الحضـارة الإسلامية التي بنيـت على أسس الحضارات القديمة التي عفا عليها الزمن، فأعادت الحضارةُ العربية الإسلامية الحياة في العلوم المندثرة تلك، ورعتها وحفظتها كي تكون تراثاً لجميـع بني البشر عبر التاريخ.
والجدير بالذكر أن الحضارة العربية الإسلامية لم تتوقف عند حد الاقتباس من تلك الحضارات، وإنما تفنـنت في دور الإبداع، فصـنف العلماء العرب الكتب الجليلة القدر، والعظيمة النفع التي احتوت على تجاربهم، وأتتِ بالعديد من مكتشفاتهم ذاتِ الأهمية الكبيرة في الأمراض والعلاجات، وقد قاموا بتطوير العناية بالمرضى، كما أبدوا اهتماما كبيراً بالصحة العامة، فبادروا إلى فتح المستشفيات، وإنشاء المدارس الطبية.
إن الأمر الذي حـدا بي على انتقاء تاريخ أسرة بني زهر الطبية في الأندلس عنواناً لهذا الكتاب هو: وصف مؤرخي علم الطب العربي ـ وفي مقدمتهم ابن أبي أصيبعة ـ لصناعة الطب التي إذا ما قيست بباقي الصنائع، فهي من أشرفها، وسائر البضائع، فهي من أربحها، وتناولتها الكتب بشيء من التفصيـل، وتضمنتها الأوامر الشرعية، فعُدَّ علمُ الأبدان قريناً لعلم الأديان، ومما يطلبه الإنسان: الخيرُ واللذة، وهما يتم حصولهما للإنسان بوجود الصحة، فاللذة المستفادة من هذه الدنيا، والخير المأمول في الدار الأخرى لا يتم الوصول إليهما إلا بوجود الصحة، وقوة البنية، وذلك يتم بالصناعة الطبية؛ لأنها تحفظ الصحة الموجودة، وترد الصحة المفقودة، ولما كانت صنعة الطب من الشرف بهذا المقام، والحاجة إليه داعية في كل حـين وزمان، وجب أن يكـون الاعتنـاء بالصحة أشد، والرغبة في الحصول على قوانينها آكد وأجد.
ولما كان قد ورد الكثير من المشتغلين بعلم الطب، والراغبين في مباحث أصوله ـ وفيهم جماعة من كبار أهل هذه الصناعة، وذوي النظر فيه والبراعة، فمنهم من تواترت الأخبار بفضلهم، وشهدت لهم مصنفاتهم، وأشارت إليـهم مؤلفاتهم ـ لما كان الأمر كـذلك، أقدمتُ على اختيار الموضوع سـالفِ الذكر لدراسـة تاريخ حياة أسـرة بني زهر وجهـودها العلمية، تلك الأسرة العربية الإسلامية العريقة التي أنجبت عدداً كبيراً من الأطباء المشهورين خلال ستة أجيال متتابعة، اشتغل أبناؤها، ونبغوا في الطب والفلسـفة، والأدب والشعر، والسياسة والفقه، تلك التي يتصل نسـبها بإياد بن معد بن عدنان، وكُنِّـي أفرادها جمـيعاً بـ: (ابن زهر)، وقدمت ستة من الأطباء والطبيبات، وهم على التوالي:
1 ـ أبـو بكـر محمـد بن مروان بن زهـر (المتـوفى سنة 422ﻫ/ 1020م).
2 ـ ابنه أبو مروان عبد الملك بن محمد (المتوفى سنة 471ﻫ/ 1087م).
3 ـ أبو العلاء بن عبد الملك (المتوفى سنة 525ﻫ/ 1130م).
4 ـ أبو مروان عبـد الملك بن أبـي العلاء (المتوفى سنة 557ﻫ/ 1161م).
5 ـ أبو بكر محمد بن عبد الملك (الحفيد) (المتوفى سنة 595ﻫ/ 1198م).
6 ـ أبو محمد عبدالله بن الحفيد (المتوفى سنة 602ﻫ/ 1205م).
إن بنـي زهر هم من نبلاء الأندلس العرب الذين اشتهروا بالجـاه والتقـوى والطب بين القرنين (الخامس والسابع للهجرة/ الحادي عشر والثالث عشر للميلاد). هاجر جدهم الأعلى (زهر) من الجزيرة العربية إلى الأندلس، فاستقر أبناؤه أولاً في جفن شاطبة، وانتقلت إلى إشبيلية، لكن لم يُعرف تاريخ انتقال هذه الأسرة إلى إشبيلية الكائنة في جنوب غربي الأندلس.
إن الحلقة الأولى من سلسلة أطباء بني زهر يمثلها الطبيب أبو مروان عبد الملك بن محمد (المتوفى سنة 470، أو 471ﻫ/ 1077 ـ 1078م)، وبناءً على هذا التاريخ يمكن اعتبار البدء بدراسة تاريخ هذه الأسرة العربية الفريدة من نوعها في مجالي حياتها وجهودها العلمية، خاصة في حقل علم الطب الذي اشتهرت بـه، والذي تطور بصورة ملحوظة، فالطبيب أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء (المتوفى سنة 557ﻫ/ 1161م) ارتقى سلم الشهرة في الطب، حتى وُصف بأنه أعظم طبيب سريري في الإسلام، وهو الذي صنف عدة تآليف في الطب، في مقدمتها: كتاب ’التيسير في المداواة والتدبير‘ الذي تُرجِم إلى عدة لغات عربية وشرقية، وترك أثراً كبيراً لدى المعنيين في الطب في أوربا.
أما الزوايا التي تناولتـها في دراسة أسرة بني زهر الأندلسية الطبية منها، فبالإمكان تلخيصها بالآتي:
أولاً: حال الطـب في إسبانيا قبيل الفتح العربي الإسلامي، وفي الأندلس بعد الفتح.
ثانياً: أشـهر أطباء الأندلس الذين سبقوا أسرة بني زهر، وتأثرت بهم، والذين عاصروها، وتأثرت وأثرت بهم.
ثالثاً: أسرة بني زهر: أصلها، ومن أين أتت، وأين استقرت، وبم اشتهرت، وأبرز أفرادها بصورة مفصلة، وجهودهم العلمية.
رابعاً: دراسـة أفراد أسـرة بني زهر السـتة: حياتهم، وجهـودهم العلمية، مع دراسة الطبيبة (أم عمرو) أخت الحفيد وابنتها.
خامساً: عرض النقاط والملاحظات التي اكتشفت ما يكتنفها من غموض، وهي بحاجة ملحة للبحث عنها، وإماطة اللثام عن وجهها؛ كي يطلع الباحثون على حقيقتهـا، ومنهـا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ: شحة وندرة المعلومات والأخبار عن (زهر) الأول الذي لم يعرف شيء عنه سوى أنه جاء من الجزيرة العربية إلى الأنـدلس، وأنه كان حيـاً في القرن الثالث للهجرة. وكذلك المدعو (مروان بن زهر) الذي أحجمت جميع المصادر والمراجع المتيسرة عن ذكر أي شيء عنه، وكذلك أخت الحفيد الطبيبة أم عمرو؛ فإن أخبارها كانت ضنينة.
إن المصـادر والمراجع التي كتبت عن الطب العربي بعامة، وعن أسرة بني زهر الأندلسية بخاصة، كانت قليلة؛ فإن عدداً من المجلدات الجليلة ذات الصلة بهذا العلم الجليل وغيره كانت قد أكلتها المحرقة التي أشعل أُوارها الكاردنال (خمنيث) سنة (950ﻫ/ 1499م) بصورة متعمدة في ساحات غرناطة؛ حيث أحرق أكثر من ثمانين إلى مئة ألف مخطوطة، ولعل ندرة الأخبار عن زهر الأول، وابنه مروان وحفيده محمد، والطبيبة أخت الحفيد، وابنتها، وغير هؤلاء كثر، كانت بسبب ضياع وحرق البعض الأعظم من التآليف القديمة القيمة، وتجنباً للإطالة المملة، هذا عرض لأهم المصادر المنتخبة ذات الأهمية البالغة في اعتمادي عليها في إعداد هذا الكتاب، وهي:
أولاً: ’التيسيـر في المداواة والتدبير‘ لأبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المتـوفى (557ﻫ/ 1161م)، تحقيق محمد بن عبدالله الروداني، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1991م.
والجدير بالذكر أن الباحـث قد تيسـرت له نسـخة أخرى من هذا الكتاب بتحقيق الدكتور ميشيل الخوري، الناشر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (تونس) (1403ﻫ/ 1983م).
كان ابن زهر قد صنف عدداً من الكتب في صناعة الطب لا مجال لذكرها هنا، لكن أهم تصـانيفه وأبلغها أثراً وتأثراً كان ـ بلا شك ـ كتاب ’التيسـير في المـداواة والتدبـير‘؛ إنه يُعَـدُّ الكتـاب الأم بيـن تصانـيفه وتصانيف أطباء عصره في بلاد الأندلس، فلهذا الكتاب أهمية خاصة في إعداد الأطروحة هذه. تظهر أهميته في مجمل النصوص الصغيرة المستلة من صفحـاته النيرة، خاصة تلك التي تخـص مشـاهداته، واكتشـافات واختراعات مؤلفه في صنـاعة الطب؛ فإنها كانت معيـناً لما مدَّ الباحث في تبيين علم هذا الطبيب، وساعدته في رسم شخصيته الفذة التي كانت المصادر التاريخية ضنينة في ذكر ملامح حياته، عدا نُبذ ليس إلا.
ثانياً: ’معجـم الأدباء‘ لياقوت الحمـوي (المتـوفى سنة 626ﻫ/ 1228م) (جـ 18)، راجعته وزارة العمومية، طبع دار المأمون، مصر، بلا تاريخ.
إن ’معجم الأدباء‘ لا يقل أهمية عن سالفه، خاصة في علم الرجال، والتراجم للعلمـاء الذين لعبـوا دوراً كبيـراً في تـدويـن التاريخ العـربي الإسلامي، وعملوا على ازدهار الحضارة العربية الإسلامية.
لقد أولى ياقوت في مصنـفه الضـخم هذا الأدباء العـرب عامـة، والأندلسيين منهم خاصة، أهمية كبيرة، فترجم لنيف وستين من الشعراء والكـتاب النابغين في الأندلس، ومنهم: أبو بكر محمد بن عبد الملك ابن زهر الملقب بـ (الحفيد) المتوفى (سنة 595ﻫ/ 1198م) الذي كان يحفـظ شعر ذي الرُّمة، وانفرد بالإجادة في نظـم الموشحات التي فاق بها أهل المغرب والمشرق، فاستعان الباحث بهذا المصدر ذي القيمة التاريخية المعروفة، وأخذ منه الشيء المهم من ترجمة الطبيب الأديب الشاعر المبدع أبى بكر محمد بن عبد الملك، وبعضاً من جميل شعره، وبدائع موشحاته.
ثالثاً: ’عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘ لموفق الدين أبي العباس أحـمد بن القاسـم بن خليفـة بن يونس السـعدي الخـزرجي المعروف بـ ’ابن أبي أصيبعة‘ المتوفى (سنة 668ﻫ/ 1169م)، تحقيق الدكتور نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965م.
إنه مؤلف ضخم، وصف بأنه أحسن كتاب بين كتب التراجم، وهو يحوي على ما يقرب من 400 ترجمة، فتكلم على عدد كبير من الأطباء العرب والعجم، والهنود والمغرب، وأورد الكثير من الشعر العربي، وإنه ـ على حد قول محققه ـ ’لا يترك شاردة ولا واردة إلا يذكرها‘.
يعد هذا الكتاب ـ حقاً ـ العكازة اليمنى بيد الباحث بين المصادر الأولية التي اعتمدها في بحثه هذا.
تناول ابن أبي أصيبعة أسرة زهر العربية، الطبية، الأدبية، الفلسفية، الفقهية، فترجم لعدد من سلسلة أفرادها، مركزاً على اشتغالهم بعلم الطب والأدب، من أبرزهم: أبو العلاء زهر (المتوفى سنة 525ﻫ/ 1130م)، وابنه أبو مروان عبـد الملك ابن أبي العـلاء زهر (المتوفى سنة 557ﻫ/ 1161م)، وابنـه أبـو بكر محمـد بن أبي مروان عبـد الملك (المتوفى سنة 595ﻫ/ 1198م)، الحفيـد الذي بـرز واشتهر في الأدب والشـعر أكثـر مـن شـهرتـه فـي الطـب والمـداواة، ولم ينـس مـن أفـراد هـذه الأسرة أحداً.
رابعاً: ’وفيـات الأعيان وأنباء الزمان‘ لابن خلـكان أبي العبـاس شمس الدين أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر (المتوفى سنة 681ﻫ/ 1282م).
إن هذا الكتاب هو معجم في التراجم، سار فيه مؤلفه على حروف المعجم، فالملاحظ أنه لم يترجم فيه إلا لمن عرف تاريخ وفاته، ومن له شهرة بين الناس، فترجم لـ (56) شخصية ثقافية أو علمية أو سياسية أندلسية، وكان لها دور في حياته الثقافية والعلمية والسياسية، ومن الرجال الذين ترجم لهم: أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر، فأخـذ الباحث منه ما عزز الأطروحـة من ترجمة الطبيـب الشاعر الأديب، خاصة من نتاجه الشعري البديع؛ كقوله وقد شاخ وغلب عليه الشيب:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت
فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
...إلخ.
خامسـاً: ’نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب‘ للشيخ أحمد ابن محمد المقري التلمساني (المتوفى سنة 1041ﻫ/ 1631م)، تحقيق: الأستاذ يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى (1406ﻫ/ 1986م)، بيروت ـ لبنان.
إن هذا الكتاب موسـوعة ضخمة عن الأندلس؛ حقق فيه المَقَّري التعريف بتـاريخ الأندلس وجغرافيتها، وآدابها ورجالها، والذي تجدر الإشارة إليه هنا هو: أن المؤلف كان قد كتب عن أفراد أسرة زهر ـ مدار البـحث ـ شيئاً من تاريخهم ونشاطاتهم في علم الطب والأدب والشعر والفقه، لكن في أجـزاء شتـى من هذا الكتـاب المؤلـف من أحد عشر مجلداً.
إن ما يؤخذ على المقري في كتابه عن تاريخ أسرة زهر هو:
أولاً: أنـه تناول الموضوع منجماً ومتناثراً في أربعة مجلدات هي على التوالي (3، 4، 5 و9).
ثانياً: أنه لم يكتب عن أفراد الأسرة وفق التسلسل الزمني، وإنما قدم وأخر.
ثالثاً: أغفل الحديث عن بعض أفراد الأسرة؛ كزهر الأول، وابنه مروان، ولم يأتِ بأي خبر عنهما، كما أنه أهمل ذكر الطبيبة (أم عمرو) أخـت الحفيـد، وابنتها، وهمـا طبيبتان ماهرتان على ما ذكرت غالبيـة المصادر والمراجع.
ولا شك في إن إقرار المعنيين بأهمية تاريخ الطب ـ عموماً ـ يكون قد وضعهم قصاد تاريخ الطب العربي بصورة خاصة. فلا جدال في أهمية الدور الكبير الذي لعبه العرب في تاريخ الطب، فبطلوع شمس الإسلام على ربوع جزيرة العرب، وانطلاقِ قاطنيها من الظلام الحندس إلى النور، ولدت ونشـأت الحضـارة الإسلامية التي بنيـت على أسس الحضارات القديمة التي عفا عليها الزمن، فأعادت الحضارةُ العربية الإسلامية الحياة في العلوم المندثرة تلك، ورعتها وحفظتها كي تكون تراثاً لجميـع بني البشر عبر التاريخ.
والجدير بالذكر أن الحضارة العربية الإسلامية لم تتوقف عند حد الاقتباس من تلك الحضارات، وإنما تفنـنت في دور الإبداع، فصـنف العلماء العرب الكتب الجليلة القدر، والعظيمة النفع التي احتوت على تجاربهم، وأتتِ بالعديد من مكتشفاتهم ذاتِ الأهمية الكبيرة في الأمراض والعلاجات، وقد قاموا بتطوير العناية بالمرضى، كما أبدوا اهتماما كبيراً بالصحة العامة، فبادروا إلى فتح المستشفيات، وإنشاء المدارس الطبية.
إن الأمر الذي حـدا بي على انتقاء تاريخ أسرة بني زهر الطبية في الأندلس عنواناً لهذا الكتاب هو: وصف مؤرخي علم الطب العربي ـ وفي مقدمتهم ابن أبي أصيبعة ـ لصناعة الطب التي إذا ما قيست بباقي الصنائع، فهي من أشرفها، وسائر البضائع، فهي من أربحها، وتناولتها الكتب بشيء من التفصيـل، وتضمنتها الأوامر الشرعية، فعُدَّ علمُ الأبدان قريناً لعلم الأديان، ومما يطلبه الإنسان: الخيرُ واللذة، وهما يتم حصولهما للإنسان بوجود الصحة، فاللذة المستفادة من هذه الدنيا، والخير المأمول في الدار الأخرى لا يتم الوصول إليهما إلا بوجود الصحة، وقوة البنية، وذلك يتم بالصناعة الطبية؛ لأنها تحفظ الصحة الموجودة، وترد الصحة المفقودة، ولما كانت صنعة الطب من الشرف بهذا المقام، والحاجة إليه داعية في كل حـين وزمان، وجب أن يكـون الاعتنـاء بالصحة أشد، والرغبة في الحصول على قوانينها آكد وأجد.
ولما كان قد ورد الكثير من المشتغلين بعلم الطب، والراغبين في مباحث أصوله ـ وفيهم جماعة من كبار أهل هذه الصناعة، وذوي النظر فيه والبراعة، فمنهم من تواترت الأخبار بفضلهم، وشهدت لهم مصنفاتهم، وأشارت إليـهم مؤلفاتهم ـ لما كان الأمر كـذلك، أقدمتُ على اختيار الموضوع سـالفِ الذكر لدراسـة تاريخ حياة أسـرة بني زهر وجهـودها العلمية، تلك الأسرة العربية الإسلامية العريقة التي أنجبت عدداً كبيراً من الأطباء المشهورين خلال ستة أجيال متتابعة، اشتغل أبناؤها، ونبغوا في الطب والفلسـفة، والأدب والشعر، والسياسة والفقه، تلك التي يتصل نسـبها بإياد بن معد بن عدنان، وكُنِّـي أفرادها جمـيعاً بـ: (ابن زهر)، وقدمت ستة من الأطباء والطبيبات، وهم على التوالي:
1 ـ أبـو بكـر محمـد بن مروان بن زهـر (المتـوفى سنة 422ﻫ/ 1020م).
2 ـ ابنه أبو مروان عبد الملك بن محمد (المتوفى سنة 471ﻫ/ 1087م).
3 ـ أبو العلاء بن عبد الملك (المتوفى سنة 525ﻫ/ 1130م).
4 ـ أبو مروان عبـد الملك بن أبـي العلاء (المتوفى سنة 557ﻫ/ 1161م).
5 ـ أبو بكر محمد بن عبد الملك (الحفيد) (المتوفى سنة 595ﻫ/ 1198م).
6 ـ أبو محمد عبدالله بن الحفيد (المتوفى سنة 602ﻫ/ 1205م).
إن بنـي زهر هم من نبلاء الأندلس العرب الذين اشتهروا بالجـاه والتقـوى والطب بين القرنين (الخامس والسابع للهجرة/ الحادي عشر والثالث عشر للميلاد). هاجر جدهم الأعلى (زهر) من الجزيرة العربية إلى الأندلس، فاستقر أبناؤه أولاً في جفن شاطبة، وانتقلت إلى إشبيلية، لكن لم يُعرف تاريخ انتقال هذه الأسرة إلى إشبيلية الكائنة في جنوب غربي الأندلس.
إن الحلقة الأولى من سلسلة أطباء بني زهر يمثلها الطبيب أبو مروان عبد الملك بن محمد (المتوفى سنة 470، أو 471ﻫ/ 1077 ـ 1078م)، وبناءً على هذا التاريخ يمكن اعتبار البدء بدراسة تاريخ هذه الأسرة العربية الفريدة من نوعها في مجالي حياتها وجهودها العلمية، خاصة في حقل علم الطب الذي اشتهرت بـه، والذي تطور بصورة ملحوظة، فالطبيب أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء (المتوفى سنة 557ﻫ/ 1161م) ارتقى سلم الشهرة في الطب، حتى وُصف بأنه أعظم طبيب سريري في الإسلام، وهو الذي صنف عدة تآليف في الطب، في مقدمتها: كتاب ’التيسير في المداواة والتدبير‘ الذي تُرجِم إلى عدة لغات عربية وشرقية، وترك أثراً كبيراً لدى المعنيين في الطب في أوربا.
أما الزوايا التي تناولتـها في دراسة أسرة بني زهر الأندلسية الطبية منها، فبالإمكان تلخيصها بالآتي:
أولاً: حال الطـب في إسبانيا قبيل الفتح العربي الإسلامي، وفي الأندلس بعد الفتح.
ثانياً: أشـهر أطباء الأندلس الذين سبقوا أسرة بني زهر، وتأثرت بهم، والذين عاصروها، وتأثرت وأثرت بهم.
ثالثاً: أسرة بني زهر: أصلها، ومن أين أتت، وأين استقرت، وبم اشتهرت، وأبرز أفرادها بصورة مفصلة، وجهودهم العلمية.
رابعاً: دراسـة أفراد أسـرة بني زهر السـتة: حياتهم، وجهـودهم العلمية، مع دراسة الطبيبة (أم عمرو) أخت الحفيد وابنتها.
خامساً: عرض النقاط والملاحظات التي اكتشفت ما يكتنفها من غموض، وهي بحاجة ملحة للبحث عنها، وإماطة اللثام عن وجهها؛ كي يطلع الباحثون على حقيقتهـا، ومنهـا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ: شحة وندرة المعلومات والأخبار عن (زهر) الأول الذي لم يعرف شيء عنه سوى أنه جاء من الجزيرة العربية إلى الأنـدلس، وأنه كان حيـاً في القرن الثالث للهجرة. وكذلك المدعو (مروان بن زهر) الذي أحجمت جميع المصادر والمراجع المتيسرة عن ذكر أي شيء عنه، وكذلك أخت الحفيد الطبيبة أم عمرو؛ فإن أخبارها كانت ضنينة.
إن المصـادر والمراجع التي كتبت عن الطب العربي بعامة، وعن أسرة بني زهر الأندلسية بخاصة، كانت قليلة؛ فإن عدداً من المجلدات الجليلة ذات الصلة بهذا العلم الجليل وغيره كانت قد أكلتها المحرقة التي أشعل أُوارها الكاردنال (خمنيث) سنة (950ﻫ/ 1499م) بصورة متعمدة في ساحات غرناطة؛ حيث أحرق أكثر من ثمانين إلى مئة ألف مخطوطة، ولعل ندرة الأخبار عن زهر الأول، وابنه مروان وحفيده محمد، والطبيبة أخت الحفيد، وابنتها، وغير هؤلاء كثر، كانت بسبب ضياع وحرق البعض الأعظم من التآليف القديمة القيمة، وتجنباً للإطالة المملة، هذا عرض لأهم المصادر المنتخبة ذات الأهمية البالغة في اعتمادي عليها في إعداد هذا الكتاب، وهي:
أولاً: ’التيسيـر في المداواة والتدبير‘ لأبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المتـوفى (557ﻫ/ 1161م)، تحقيق محمد بن عبدالله الروداني، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1991م.
والجدير بالذكر أن الباحـث قد تيسـرت له نسـخة أخرى من هذا الكتاب بتحقيق الدكتور ميشيل الخوري، الناشر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (تونس) (1403ﻫ/ 1983م).
كان ابن زهر قد صنف عدداً من الكتب في صناعة الطب لا مجال لذكرها هنا، لكن أهم تصـانيفه وأبلغها أثراً وتأثراً كان ـ بلا شك ـ كتاب ’التيسـير في المـداواة والتدبـير‘؛ إنه يُعَـدُّ الكتـاب الأم بيـن تصانـيفه وتصانيف أطباء عصره في بلاد الأندلس، فلهذا الكتاب أهمية خاصة في إعداد الأطروحة هذه. تظهر أهميته في مجمل النصوص الصغيرة المستلة من صفحـاته النيرة، خاصة تلك التي تخـص مشـاهداته، واكتشـافات واختراعات مؤلفه في صنـاعة الطب؛ فإنها كانت معيـناً لما مدَّ الباحث في تبيين علم هذا الطبيب، وساعدته في رسم شخصيته الفذة التي كانت المصادر التاريخية ضنينة في ذكر ملامح حياته، عدا نُبذ ليس إلا.
ثانياً: ’معجـم الأدباء‘ لياقوت الحمـوي (المتـوفى سنة 626ﻫ/ 1228م) (جـ 18)، راجعته وزارة العمومية، طبع دار المأمون، مصر، بلا تاريخ.
إن ’معجم الأدباء‘ لا يقل أهمية عن سالفه، خاصة في علم الرجال، والتراجم للعلمـاء الذين لعبـوا دوراً كبيـراً في تـدويـن التاريخ العـربي الإسلامي، وعملوا على ازدهار الحضارة العربية الإسلامية.
لقد أولى ياقوت في مصنـفه الضـخم هذا الأدباء العـرب عامـة، والأندلسيين منهم خاصة، أهمية كبيرة، فترجم لنيف وستين من الشعراء والكـتاب النابغين في الأندلس، ومنهم: أبو بكر محمد بن عبد الملك ابن زهر الملقب بـ (الحفيد) المتوفى (سنة 595ﻫ/ 1198م) الذي كان يحفـظ شعر ذي الرُّمة، وانفرد بالإجادة في نظـم الموشحات التي فاق بها أهل المغرب والمشرق، فاستعان الباحث بهذا المصدر ذي القيمة التاريخية المعروفة، وأخذ منه الشيء المهم من ترجمة الطبيب الأديب الشاعر المبدع أبى بكر محمد بن عبد الملك، وبعضاً من جميل شعره، وبدائع موشحاته.
ثالثاً: ’عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘ لموفق الدين أبي العباس أحـمد بن القاسـم بن خليفـة بن يونس السـعدي الخـزرجي المعروف بـ ’ابن أبي أصيبعة‘ المتوفى (سنة 668ﻫ/ 1169م)، تحقيق الدكتور نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965م.
إنه مؤلف ضخم، وصف بأنه أحسن كتاب بين كتب التراجم، وهو يحوي على ما يقرب من 400 ترجمة، فتكلم على عدد كبير من الأطباء العرب والعجم، والهنود والمغرب، وأورد الكثير من الشعر العربي، وإنه ـ على حد قول محققه ـ ’لا يترك شاردة ولا واردة إلا يذكرها‘.
يعد هذا الكتاب ـ حقاً ـ العكازة اليمنى بيد الباحث بين المصادر الأولية التي اعتمدها في بحثه هذا.
تناول ابن أبي أصيبعة أسرة زهر العربية، الطبية، الأدبية، الفلسفية، الفقهية، فترجم لعدد من سلسلة أفرادها، مركزاً على اشتغالهم بعلم الطب والأدب، من أبرزهم: أبو العلاء زهر (المتوفى سنة 525ﻫ/ 1130م)، وابنه أبو مروان عبـد الملك ابن أبي العـلاء زهر (المتوفى سنة 557ﻫ/ 1161م)، وابنـه أبـو بكر محمـد بن أبي مروان عبـد الملك (المتوفى سنة 595ﻫ/ 1198م)، الحفيـد الذي بـرز واشتهر في الأدب والشـعر أكثـر مـن شـهرتـه فـي الطـب والمـداواة، ولم ينـس مـن أفـراد هـذه الأسرة أحداً.
رابعاً: ’وفيـات الأعيان وأنباء الزمان‘ لابن خلـكان أبي العبـاس شمس الدين أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر (المتوفى سنة 681ﻫ/ 1282م).
إن هذا الكتاب هو معجم في التراجم، سار فيه مؤلفه على حروف المعجم، فالملاحظ أنه لم يترجم فيه إلا لمن عرف تاريخ وفاته، ومن له شهرة بين الناس، فترجم لـ (56) شخصية ثقافية أو علمية أو سياسية أندلسية، وكان لها دور في حياته الثقافية والعلمية والسياسية، ومن الرجال الذين ترجم لهم: أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر، فأخـذ الباحث منه ما عزز الأطروحـة من ترجمة الطبيـب الشاعر الأديب، خاصة من نتاجه الشعري البديع؛ كقوله وقد شاخ وغلب عليه الشيب:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت
فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
...إلخ.
خامسـاً: ’نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب‘ للشيخ أحمد ابن محمد المقري التلمساني (المتوفى سنة 1041ﻫ/ 1631م)، تحقيق: الأستاذ يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى (1406ﻫ/ 1986م)، بيروت ـ لبنان.
إن هذا الكتاب موسـوعة ضخمة عن الأندلس؛ حقق فيه المَقَّري التعريف بتـاريخ الأندلس وجغرافيتها، وآدابها ورجالها، والذي تجدر الإشارة إليه هنا هو: أن المؤلف كان قد كتب عن أفراد أسرة زهر ـ مدار البـحث ـ شيئاً من تاريخهم ونشاطاتهم في علم الطب والأدب والشعر والفقه، لكن في أجـزاء شتـى من هذا الكتـاب المؤلـف من أحد عشر مجلداً.
إن ما يؤخذ على المقري في كتابه عن تاريخ أسرة زهر هو:
أولاً: أنـه تناول الموضوع منجماً ومتناثراً في أربعة مجلدات هي على التوالي (3، 4، 5 و9).
ثانياً: أنه لم يكتب عن أفراد الأسرة وفق التسلسل الزمني، وإنما قدم وأخر.
ثالثاً: أغفل الحديث عن بعض أفراد الأسرة؛ كزهر الأول، وابنه مروان، ولم يأتِ بأي خبر عنهما، كما أنه أهمل ذكر الطبيبة (أم عمرو) أخـت الحفيـد، وابنتها، وهمـا طبيبتان ماهرتان على ما ذكرت غالبيـة المصادر والمراجع.
الناشر | دار النوادر |
عنوان الناشر | دمشق |
سنة النشر (هجري) | 1433 |
سنة النشر (ميلادي) | 2012 |
رقم الطبعة | 1 |
نوع الورق | كريم شاموا |
غراماج الورق | 70 |
مصدر الورق | ياباني |
قياس الورق | 17 × 24 |
عدد المجلدات | 1 |
عدد الصفحات | 438 |
الغلاف | فني |
ردمك | 9789933459727 |
تأليف/تحقيق | تأليف |
تصنيف ديوي |
تحميل
كلمات مفتاحية
روابط مفيدة
ممتاز