إن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والرسل، وجاءت رسالته كافة للناس إلى أن يـرث الله الأرض ومن عليها. فاقتضى ذلك أن تحفـظ أصولها عن التحريف والتزييف، وشـكّل هذا الحفظ أحدَ أهم دواعي اسـتمرارها عبر الزمان والمكان. وقد تكفل الله بذلك حيـث قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. وجاء هذا العهد ليشمل مصدري التشريع الرئيسيين، وهما: القرآن، والسنة.
فيسر الله للقرآن حفاظاً حفظوه في السطور والصدور من اللحظة الأولى للتنزيل، وتتالت مواكب العلماء خدمـة ودراسـة لمباحثـه حتى ظهرت علومـه المختلفة، واستقرت مباحثه على ما نراه اليوم. ويسر الله للسنة النبوية أيضاً أئمة عدولاً في كل عصر ينفون عنها تأويل الجاهلين، وانتحالَ المبطلين، وتحريف الغالين، فتعاقبت جهودهم عبر الزمان على حفظها حتى ’أشرقت شموس صِحاح الأخبار، وانبعثت أشعتها في الأقطار، وتمزقت عن البصائر حجب الجهالة، وأغشية الضلالة.
والناظر في السنة يجد تنوعاً وتعدداً في مباحثها؛ فقد نشأت لخدمتها علوم مختلفة؛ تلبية لحاجات السنة في البيان والتثبت، ذلك أن علوم السنة جاءت إما لبيان المعاني المستنبطة من متن الحديث بكل ما يحمل ذلك من تفصيلات مباحث المتن المختلفة، أو جاءت للتثبت من صحة الحديث وسقمه، بكل ما يحمل هذا التثبت أيضاً من تفصيلات في مباحث المتن والإسناد على حد سواء.
ومن هنا جاءت العلوم التي تهدف إلى بيان صحيح الأخبار من سقيمها، وكان على رأس هذه العلوم: علم العلل، الذي يبحث في أخطاء الرواة، ويكشف عن أوهام الرواية، ويشـكل موضوع البحث ـ في هذا الرسـالة ـ لبنة أساسية في علم العلل.
* أهمية الموضوع، وسبب اختياره:
جاء الموضـوع في ذهني لما كنـت أبحث في كتب العلل، وعلى الأخص كتاب ’علل الحديث‘ لابن أبي حاتم الرازي، فاستوقفني تعليل النقاد لجملة من الأحاديث بقولهم: ’وأصحاب فلان على خلاف ذلك، وهو الصواب‘. وقولهم: ’وخالف الثقات من أصحاب فلان‘. وما شابهها من ألفاظ. فعدت في بداية الأمر إلى ’تهذيب التهذيب‘ لابن حجر باحثاً عن هذه الكلمة: ’أصحاب‘؛ هل استخدمها النقاد في نقدهم للرجال؟ وهل لهذه الكلمة معان في أذهانهم؟ وهل هناك مادة في هذا الباب؟ فوجدت أن النقاد أكثروا من استخدام هذه الكلمة في كلامهم عن الرواة إيجاباً وسلباً. فلما أضفت هذا لما وجدته سابقاً من استخدام لها في معرض التعليل؛ وقر في قلبي أهمية البحث في هذه الكلمة ومعانيها، والمعرفة المترتبة عليها، فجاء هذا الموضوع. ومما عزز لدي القناعة في البحث فيه: ما ذكره ابن رجب الحنبلـي في ’قواعده‘ التي ذيل بها شـرح علل الترمذي؛ فقد بدأ بذكر أصحاب طائفة من الرواة، مبيناً أقوال النقاد في ذلك.
ولما كانت هذه المفردة تحتاج إلى بيان أثرها في النقد، كان لا بد من اختيار ميدان تطبيقـي للدراسة، وكنت في بدايـة الأمر أتجـه إلى البحث في كتاب ’علل الحديث‘ لابن أبي حاتم الرازي، أبحث فيه علل أصحاب التابعين المكثرين، والذين بلغ عدهم ما يزيد على أربعة عشر تابعياً، أدرس اختلاف أصحابهم عليهم من خلال الكتاب. غير أن البحث في هذا الكتاب على هذه الصورة ـ وإن ترتبت عليه فائدة عظيمة ـ لا يعطي مفهوماً متكاملاً عن أصحاب كل شيخ من الشيوخ المراد دراسة الاختلاف في الرواية عنهم؛ لأن علل هؤلاء الأصحاب لا تنحصر في هذا الكتاب، فهنالك علل أخرى في كتب العلل المختلفة؛ مما يعني: أن الدراسة ستكون قاصرة عن إدراك مراتب أصحاب الشيوخ، والتي هي من أهم ثمرات البحث في عللهم. من هنا فقد اقترح عليّ الأستاذ الدكتور عبد الناصر أبو البصل عميد الكلية أن أركز البحث في علل أصحاب شيخ من الشيـوخ، ويكـون ميدانـه في كـل كتب العلل والرواية، مما يعطي تصوراً كاملاً عن أصحابه ومراتبهم، فوقر الأمر في قلبي، وبعد البحث والتحري اخترت أن يكون الميدان التطبيقي للدراسة هو سليمان بن مِهران الأعمش، ذلك أنه من الشيوخ المكثرين، وممن كثر أصحابه. وخلص الموضوع إلى أن يكون عنوانه:
معرفـة أصحاب الرواة
وأثرها في التعليل دراسـة نظرية وتطبيقية
في علل أصحاب الأعمش (سليمان بن مِهران)